القضية الفلسطينية بعد قمّة شرم الشيخ: تشابك الأبعاد الدولية والإقليمية
استمع إلى الملخص
- تعقيدات القضية الفلسطينية تتزايد بعد حرب غزة، مع تآكل قدرة واشنطن على التحكم في مساراتها، وتصاعد العزلة الدولية لإسرائيل، مما يضعف تأثير اتفاقات إبراهام.
- الصراع العربي الإسرائيلي يدخل مرحلة "صراع الإرادات"، مع فشل إسرائيل في الحسم العسكري، وتحديات التطبيع الإقليمي تشمل دور إيران وتركيا وتداعيات الهجوم على قطر.
على الرغم من هيمنة "مصطلحات النصر" على زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إسرائيل ومصر، ولا سيّما خطابه في الكنيست الإسرائيلي (2025/10/13)، فإنّ ثمّة شكوكًا في قدرة هذه الأدوات الخطابية/ الإعلامية/ الدبلوماسية وحدها على تغيير المشهدَين السياسي والاستراتيجي في إقليم الشرق الأوسط، خصوصًا تجاوز تداعيات حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، وصولًا إلى النجاح في تأسيس "عملية سلام" أميركية جديدة، تُجدّد هيمنة واشنطن على الإقليم.
وفي إطار تحليل الأبعاد الدولية والإقليمية لقضية فلسطين بعد قمّة شرم الشيخ، والتحديات أمام تنفيذ اتّفاق غزّة، يمكن الوقوف عند ثلاث ملاحظات؛ أوّلاها تصاعد تعقيدات/ تشابكات البعدَين الدولي والإقليمي لقضية فلسطين، بعد عامَين كاملَين من حرب الإبادة على غزّة؛ إذ تآكلت قدّرة واشنطن وحلفائها على التحكم في مسارات القضية الفلسطينية، ضمن عملية إعادة ترتيب الأوزان والأدوار الإقليمية في المنطقة؛ إذ تبدو محدودية القدرة الأميركية في وقف "عولمة" قضية فلسطين وطوفان المظاهرات العالمية لوقف الحرب، ناهيك عن احتمال نجاح واشنطن في تخليص بنيامين نتنياهو من تبعات الملاحقة الجنائية الدولية، وفكّ "العزلة الدولية" عن إسرائيل، وإعادة إدماجها في الإقليم، عبر إنعاش مسارات اتّفاقات إبراهام لعام 2020، بعد أن تحولت إسرائيل إلى "عبئ استراتيجيّ" على السياسات الأميركية في الإقليم والعالم، وبعد تصاعد عزلة إسرائيل دوليًّا، وازدياد الإدانات لجرائم الإبادة التي ترتكبها في قطاع غزّة، إلى حدّ قول ترامب في خطابه أمام الكنيست أنّه "قد حان الوقت الآن" لوقف إطلاق النار؛ لأنّ نتنياهو لا يمكنه أن يهزم العالم"، وذلك بالتوازي مع إصرار واشنطن على إعادة تعويمه إسرائيليًا، (كما تجلّى في حديث ترامب إلى زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد)، وكذلك في طلب موافقة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هيرتزوغ، على منح نتنياهو "عفوًا" في قضايا الفساد التي تلاحقه أمام القضاء الإسرائيلي.
على الرغم من التحديات/القيود الجمّة التّي فرضتها الحرب على الأطراف العربية والإقليمية والأوروبية، فإنّها تحمل فرصًا لزيادة وزن هذه الأطراف في الضغط على واشنطن، التي تبقى بحاجة إلى تعاون وتنسيق مع هذه الأطراف
على الرغم من نجاح الجهود الأميركية في إنجاز اتّفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، تكمن التحديات الحقيقية في المرحلة الثانية منه، التي تتضمّن قضايا شائكةً، (مثل: مصير سلاح حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، الذي تصرّ واشنطن وتل أبيب على نزعه، وتشكيل "قوّة استقرار" متعددة الجنسيات، لتولّي مهمّات الأمن في القطاع، وإنشاء "لجنة فلسطينية من التكنوقراط" لإدارته تحت إشراف "مجلس سلام" دولي يتولى مهمة إعادة الإعمار).
على صعيد آخر، ثمّة تعقيداتٌ إضافيةٌ تتعلّق بأمرين؛ أحدهما المسعى الفرنسي البريطاني لتوفير "غطاء قانوني"، عبر مجلس الأمن الدولي، لتشكيل قوّة "استقرار دولية" في غزّة، علمًا أنّ مشاركة قواتٍ (من دول مثل إندونيسيا وباكستان وأذربيجان وإيطاليا.. إلخ) ستكون مقدمةً لدخول أدوار إقليمية ودولية جديدة في قضية فلسطين. والآخر أنّ التنسيق مع الإندونيسيين والأذربيجانيين يضيف مستوىً من التعقيد إلى جهود تشكيل هذه القوّة، لأن هاتين الدولتين لا تقعان ضمن مسؤولية القيادة المركزية الأميركية، كما قال دان شابيرو، المسؤول الأعلى لشؤون الشرق الأوسط في البنتاغون، خلال إدارة جو بايدن (بوليتيكو 2025/10/15).
تتعلق الملاحظة الثانية بتداعيات عدم الالتزام الإسرائيلي باتّفاق غزّة، وفرص نجاحه، في ظلّ سياسة "الذرائع/ المماطلات" الإسرائيلية المعروفة، والزعم بتلكؤ حماس في تسليم جثث الأسرى الإسرائيليين؛ إذ عادت التهديدات باستئناف الحرب، ولم يلتزم نتنياهو بفتح معبر رفح، رغم اتّفاق غزّة، الذي ينصّ على فتح المعابر، ما يؤكّد أنّ نتنياهو يوازن بين الضغوط الأميركية وطلبات حلفائه الإسرائيليين المتطرفين، لتجنّب انتخابات مبكرة في إسرائيل.
على الرغم من صعوبة العودة إلى النمط السابق من حرب الإبادة على غزّة، فإنّ تحويلها إلى صور أخرى، أمرٌ لا يزال محتملًا بقوّة، في ظلّ الدعم الأميركي اللا محدود، وعمومية/ غموض خطة ترامب واتّفاق غزّة، ما يمنح إسرائيل مساحات واسعةً من المناورة والتعطيل، والقدرة على إعادة تفسير الاتّفاق على نحو يخدم مصالحها، أخذةً في الحسبان تصاعد تحديات الداخل الإسرائيلي بعد انتهاء ملف المحتجزين، وسعي نتنياهو إلى الهروب نحو الأمام، وتجاوز أيّة أطروحات (من المعارضة) بشأن تشكيل لجنة تحقيق رسمية في الفشل الإسرائيلي يوم السابع من أكتوبر 2023، ولا سيّما إذا استطاعت حماس ضبط أوضاع قطاع غزّة أمنيًا، على نحو يعيد طرح التساؤلات الإسرائيلية عن "سيناريوهات اليوم التالي" في غزّة.
تتعلّق الملاحظة الثالثة بمسار الصراع العربي الإسرائيلي، في المدى المنظور؛ إذ يُتوقع أن يدخل مرحلةً جديدةً من "صراع الإرادات"، بعد فشل إسرائيل في حسم الصراع مع حركة حماس، وقوى المقاومة الفلسطينية عسكريًّا، على الرغم من شن قوات الاحتلال حرب إبادة مكتملة الأركان على أهالي غزّة.
وعلى الرغم من الضغوط الأميركية الهائلة لتفعيل مسارات التطبيع العربي والإسلامي مع إسرائيل، وفك عزلتها الدولية، فإنّ ثمّة ثلاث عقبات ستبطئ هذه الجهود؛ أوّلاها موقع إيران في النظام الإقليمي الجديد؛ إذ يبدو الرئيس ترامب واثقًا من رغبة طهران في "صفقة" تحفظ بقاء النظام الإيراني، في ظلّ احتمال عودة اشتعال الصراع الإسرائيلي الإيراني، بالتوازي مع إعادة فرض العقوبات على إيران، وفشل واشنطن في جرها إلى مائدة المفاوضات، وانتهاء المدى الزمني للاتّفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، مع انقضاء فترة القرار 2231 الصادر عن مجلس الأمن في عام 2015، ما يعيد الجدل حول الملف النووي إلى "نقطة الصفر"، ويحصر الخيارات الإيرانية بين إنتاج القنبلة النووية، أو التفاوض مع الولايات المتّحدة، وسط ضغوط دولية متصاعدة.
على الرغم من نجاح الجهود الأميركية في إنجاز اتّفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، تكمن التحديات الحقيقية في المرحلة الثانية منه
تتعلق العقبة الثانية بتصاعد الدور التركي، بسبب التناغم الواضح بين واشنطن وأنقرة، والقدرة التركية على توظيف موقعها الاستراتيجي وأوراقها لتصبح طرفًا مشاركًا وضامنًا للاستقرار وفي البحث عن حلول في الملفين السوري والأوكراني، وانتزاعها دور الوسيط في ملف غزّة، على الرغم من الامتعاض الإسرائيلي الواضح من الدورين التركي والقطري، طيلة شهور حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، وتفضيل تل أبيب الأدوار المصرية والإماراتية.
على الرغم من التحديات/القيود الجمّة التّي فرضتها الحرب على الأطراف العربية والإقليمية والأوروبية، فإنّها تحمل فرصًا لزيادة وزن هذه الأطراف في الضغط على واشنطن، التي تبقى بحاجة إلى تعاون وتنسيق مع هذه الأطراف، خشية إفلات إقليم الشرق الأوسط برمته من الهيمنة الأميركية، علمًا أن الرئيس ترامب تراجع عن بعض بنود خطته (مثل فكرة تعيين توني بلير لرئاسة "مجلس السلام" لإدارة مرحلة ما بعد الحرب في قطاع غزّة، كما أشار فينسان لومير في مقالةٍ بصحيفة لوموند الفرنسية 2025/10/17).
أما العقبة الثالثة أمام التطبيع الإقليمي مع إسرائيل فتنبع من تداعيات الهجوم الإسرائيلي على قطر (2025/9/9)، إذ غيّر الهجوم على قطر البيئة الأمنية الاستراتيجية الخليجية، على نحو يشكّك في قيمة التطبيع مع دولة ذات توجهات عدوانية واضحة، وقد يدفع بدول الخليج إلى مراجعة علاقاتها وتحالفاتها الإقليمية بعيدًا عن إسرائيل.
يبقى القول إنّ تشابك الأبعاد الدولية والإقليمية في قضية فلسطين بعد حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة يخلق مزيدًا من التحديات التي تستدعي توجّه الأطراف الفلسطينية والعربية والإقليمية نحو إعادة ترتيب البيت الفلسطيني على نحو شامل، بما يدعم صمود الشعب الفلسطيني في أرضه، بعد نجاحه في طيّ صفحة التهجير من غزّة، على الرغم من استمرار السياستَين الأميركية والإسرائيلية في العمل على تحقيق أهداف الحرب بأدوات أخرى، والالتفاف على تداعيات تحرير الأسرى الفلسطينيين، وإطلاق عملية "عولمة" قضية فلسطين، التي تعني حكمًا انتصار "السردية الفلسطينية" في الصراع على نظيرتها الصهيونية، واستمرار أهمّية الأبعاد الرمزية والإعلامية في هذا الصراع العربي الإسرائيلي الممتد.