عن محاولات إخضاع الفلسطينيين سياسياً بعد العدوان على غزة
استمع إلى الملخص
- تتبنى إسرائيل سياسة إخضاع مركبة لتفكيك الإرادة الجماعية للفلسطينيين باستخدام القوة العسكرية والحصار، مما يعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
- تهدف إسرائيل إلى تهجير سكان غزة ونقل إدارة القطاع لأطراف عربية، مع استبعاد السلطة الفلسطينية وحماس، رغم استمرار المقاومة الفلسطينية والدعم الدولي.
منذ طرح إدارة دونالد ترامب "صفقة القرن" عام 2017، وتزامن معها قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بضم الجولان، وتاليًا، توقيع "الاتّفاقات الإبراهيمية"، دخلت القضية الفلسطينية مرحلةً جديدةً، جوهرها محاولة إخضاع الشعب الفلسطيني، ونفي قضيته، وتزامن ذلك مع إعادة ترتيب علاقات إسرائيل الإقليمية وتحالفاتها، واستمرار الانقسام بين غزّة والضفّة.
في هذا السياق، انتقلت إسرائيل من إدارة الصراع عبر الحروب المحدودة على قطاع غزّة، والعمليات العسكرية في الضفّة الغربية، إلى مسار إلغاء حلّ الدولتين، واتّفاق أوسلو باعتباره "أزمةً" تغذي الأمل في قيام دولةٍ فلسطينيةٍ، كما أوقفت التفاوض مع سلطة رام الله، لتقتصر العلاقة بها على التنسيق الأمني لاجهاض أيّ فعلٍ سياسيٍ منظمٍ.
اتخذ المسار هذا أسلوبين متكاملين هما:
أولًا: الدفع نحو التهجير كلما أمكن، سواء بالتضيق على سبل العيش، أو بفعل الحملات العسكرية. ثانيًا: إعادة تنظيم وهندسة الحيز الجغرافي والسكاني، مع فرض السيطرة الشاملة، عبر هياكل إداريةٍ وأمنيةٍ لعزل مكونات المجتمع، وطمس هويتها الوطنية، وتحويلها إلى تجمعاتٍ سكنيةٍ يسهل التحكم فيها، أيّ مواجهة بنى المجتمع الفلسطيني وتفتيتها. في السياق ذاته، الذى يعد تحولًا، وإزاحةً لفكرة التسوية على أساس حلّ الدولتين، برزت رؤية بتسلئيل سموتريتش، التي طرحها في سبتمبر/أيلول 2017 تحت مسمى "خطة الحسم" The Decisive Plan، التي تقوم على ضمّ الضفّة الغربية، وتقسيم و إدارة سكانها تحت لافتاتٍ عشائريةٍ، وبمجالس منتخبة، تمثّل هويةً محليةً، تخضع لإشراف إدارةٍ مدنيةٍ إسرائيليةٍ، مع تشجيع هجرة السكان، ومن يرفض الخطة، سواء التهجير أو إعادة التخطيط العمراني، سيواجه بالحلّ العسكري، لأن وجود كتل سكانية تمثّل الشعب الفلسطيني هي حركةٌ مضادةٌ للصهيونية، وهو ما يجب إلغاؤه باستقدام مئات آلاف المستوطنين محلهم.
لم تكن زيارة بن غفير إلى محبس مروان البرغوثي، ومظاهر الغطرسة بما فيها التهديد بالانتقام على مستوى الأفراد والمجتمع، سوى ملمحٍ من سياسة الإخضاع، تركز على نزع شرعية المقاومة من أيّ فصيلٍ
بعد العدوان على قطاع غزّة؛ تسارعت خطوات تنفيذ هذه الرؤية، على مستوى توسع مشروعات الاستيطان وبؤره، بالتوازي مع عملياتٍ عسكريةٍ دفعت بعض سكان مخيّمات الضفّة الغربية، خصوصًا الشمال والقدس، إلى النزوح والهجرة، كما أعلن في منتصف أغسطس/آب عن مشروع إي ون "E1" الممتد على اثني عشر كيلومترًا شرق القدس، والذي يفصل شمال الضفّة الغربية عن جنوبها بكتلٍ سكانيةٍ.
ما بين أهداف المخطط، الذي كان حبيس الأدراج قبل عقدين، كما يقول سموتريتش، استبدال التركيبة السكانية الفلسطينية بمستوطنين، ما يقلص فرص قيام دولةٍ فلسطينيةٍ. وقد عزز هذا التوجه التحالف بين حزب الليكود وأحزاب الصهيونية الدينية، التي ترى أنّ أيّ تسويةٍ سياسيةٍ، بما فيها اتّفاق أوسلو، يمثل عاملًا مسببًا لاستمرار ما تصفه بـ "الإرهاب"، كما أن مشروع الاستيطان الإحلالي هو التسوية الوحيدة التي تنتهي الصراع عبر نفي طرفها من الوجود، ولم تكن القطعية في مسار التفاوض سوى ترجمةً لإنكار بأن هناك شعبًا فلسطينيًا يمكن التوصل معه إلى تسويةٍ.
لم يعد هدف الاحتلال مقتصرًا على السيطرة الأمنية، بل امتد إلى مشروعٍ يستهدف إعادة صياغةٍ شاملةٍ للبنية السياسية والجغرافية والديموغرافية، بدايةً من السيطرة على الأرض والسكان، ويمر بمحاصرة مظاهر الانتماء والهوية، لكي ينتهي إلى تحول الشعب إلى جماعاتٍ معزولةٍ، مع دفع السكان تحت ضغط العمليات العسكرية وصعوبة سبل العيش إلى الهجرة.
الإخضاع من الحصار والسيطرة إلى أضعاف الإرادة ونفى الوجود
الإخضاع في السياق الاستعماري، هو عمليةٌ مركبةٌ لا تكتفي بكسر قوّة طرفٍ، أو إضعافه عبر الردع العسكري، بل تسعى إلى تفكيك إرادته الجماعية، وجعل مقاومته تبدو غير مجديةٍ أو مستحيلةٍ، ويتجاوز أدوات الحرب المباشرة إلى شل المجتمع، ومنظّماته السياسية، وإضعاف قدرته على إنتاج قياداتٍ أو صياغة مشروعٍ سياسيٍ تحرريٍ، مع السعي إلى طمس الهوية الوطنية، وتفتيت الوحدة السكانية، ومسح الذاكرة الجماعية. تتضمن سياسية إسرائيل في الإخضاع أساليب متنوعةٍ ومترابطةٍ، تتضمن أدوات القوّة العسكرية، والسيطرة الاقتصادية، والحرب والنفسية والدعاية على مستوياتٍ متعددةٍ، هادفةً إلى ترسيخ منطق الاحتلال، وسيطرته عسكريًا وسياسيًا، في مقابل نفي الآخر من شغل مساحاتٍ من الحضور جغرافيًا وسياسيًا، وترتكز هذه السياسة، على إنكار إنسانية الفلسطيني، في سرديةٍ غالبًا ما تتهمه بالإرهاب والتوحش، ما يسهل عزله، ويبرر مواجهته بالعنف من دون ضوابطٍ وقواعدٍ، منها وقائع العقاب الجماعي محطةً في حرب إبادةٍ، و التدمير واسع النطاق، أداةً ومقدمةً للتهجير، وأداةً من أدوات إعادة الهندسة السكانية على مستوىً أشمل.
وسائل الإخضاع وأدواته
يتضح الإخضاع الاستعماري في قطاع غزّة في صورة قهرٍ مركبٍ، إذ تتداخل أدوات الحصار والتجويع والتدمير والعزل. فمنذ عام 2007 تحول القطاع إلى ما يشبه السجن، وسكانه أسرى، بفعل حصارٍ شمل التحكم في حركة البضائع، وتقليص التمويل ومستلزمات الإنتاج، وصولًا إلى تقييد حرية التنقل للعمل والدراسة. عمقت هذه السياسات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب تبعات جولات العدوان المتكررة، التي توسعت منذ 2014 في استهداف المنازل والمستشفيات والمدارس عمدًا، ومع انتهائها تكون الإمدادات وإعادة الإعمار مشروطةً.
بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بدأ فصلٌ من الوحشية بلا حدودٍ، وجرى احتلال القطاع عسكريًا وتقسيمه إلى مناطق عازلةٍ، مع أوامر نزوحٍ متكررةٍ لمعظم سكانه، الذين واجهوا ظروف حياةٍ غير محتملةٍ، وغياب الخدمات، انقطاع الكهرباء والمياه، وتدمير المستشفيات، وتطبيق سياسة تجويعٍ وصفتها تقارير هيئات الأمم المتّحدة، ومنظّمات إنسانيةٍ بأنّها سياسةٌ مدروسةٌ واستراتيجيةٌ عسكريةٌ.
ضمن أساليب الإخضاع، مارس الاحتلال الإسرائيلي انتقامًا اتخذ نمط عقابٍ جماعيٍ، شمل أنواعًا من التحطيم تحتاج إلى معالجاتٍ طويلة الأمد، ليست قاصرةً على البنية التحتية والمنازل، وشل البنى السياسية والإدارية، لكن أيضًا تضمنت جرائم تهدف إلى تعميق الشعور بالألم، وترسخ الخوف والقلق، والحط من الكرامة، وصولًا إلى أزماتٍ نفسيةٍ تضاف إلى الفقد واليتم وجراح المصابين، كان التجويع وتشديد الحصار مقصودين، لتضعف البنى الاجتماعي ويحدث تفسخ، مع شل شبكات التضامن والتعاون ليحل مكانها مشهد التنافس من أجل كيس طحينٍ، أو بعض المساعدات تحت وطأة الجوع، أو ظواهر أخرى كما في رفع أسعار السلع الغذائية، وأمراء الحرب. وكل ذلك بغرض تحويل فرص البقاء على قيد الحياة إلى أداة مقايضةٍ للاذعان، والتحكم الكامل، وجعل الناس أكثر قابليةً للتعامل مع الترتيبات الإسرائيلية، بما فيها أوامر النزوح، أو تلقي المساعدات من مراكز تعد مصايد للموت. ولم تتوقف أهداف الحرب عند ما يعلنه الاحتلال من إسقاط حكم "حماس"، وتفكيك بنيتها السياسية والعسكرية، وفرض بديلٍ يخضع لشروطه؛ بل سعت إلى إنهاء فكرة المقاومة ذاتها، وتحويلها إلى عبءٍ بدل أن تكون وسيلةً ضمن مشروعٍ تحرريٍ وطنيٍ، بل واعتبارها سبب الأزمة.
لم يعد هدف الاحتلال مقتصرًا على السيطرة الأمنية، بل امتد إلى مشروعٍ يستهدف إعادة صياغةٍ شاملةٍ للبنية السياسية والجغرافية والديموغرافية، بدايةً من السيطرة على الأرض والسكان
لم تكن زيارة بن غفير إلى محبس مروان البرغوثي، ومظاهر الغطرسة بما فيها التهديد بالانتقام على مستوى الأفراد والمجتمع، سوى ملمحٍ من سياسة الإخضاع، تركز على نزع شرعية المقاومة من أيّ فصيلٍ، وتجرد خطابها من المصداقية، وتقول أن المواجهة مع المحتل تعنى اندلاع الكوارث، على جانبٍ آخر، تسوق إسرائيل ضمن مشاريع التطبيع قوّة سلامٍ واستقرارٍ في محاولة إعادة صياغة الوعي العربي وقبول الوضع الراهن، مع شيطنة المقاومة ولومها، وتحميل السابع من أكتوبر مسؤولية هجوم إسرائيل على القطاع، هذا الخطاب بجانب ما فيه من تفسيرٍ مضللٍ، يحول العدوان على غزّة إلى "قضيةٍ أمنيةٍ" معزولةٍ عن سياقها الاستعماري، وينتظر من أطرافٍ عربيةٍ أن تقوم بأدوارٍ معاونةٍ لإسرائيل.
أجمالًا، تتمثّل أبرز وسائل الإخضاع في الحصار الطويل لقطاع غزّة، مع تكرار تدمير البنية التحتية، وممارسة العقاب الجماعي، القتل والاستهداف الجماعي، والتجويع، بما يجعل البقاء على قيد الحياة أداة مقايضةٍ للخضوع.
من خطة الحسم إلى اليوم التالي
مع استمرار الحرب، والتدمير الشامل لقطاع غزة، وجعله غير قابلٍ للحياة، دفعت إسرائيل خطتها في اتجاهين، الأول تهجير كتلٍ من السكان إلى خارج القطاع، بما يحل جزئيًا معضلة التعامل والسيطرة على السكان، وثانيًا؛ وضمن شروط إنهاء الحرب، نقل إدارة القطاع إلى أطرافٍ عربيةٍ من "دولٍ معتدلةٍ"، تتولى مهامًا أمنيةً، وتوفير الخدمات وإعادة الإعمار، مع استبعاد السلطة الفلسطينية وحركة حماس. كلا المقترحين ضمن مسارٍ يهدف إلى نفي أرادة الفلسطينيين سواء عبر التهجير، أو تغيب أيّ شكلٍ سياسيٍ يمثّلهم، ويجسد فكرة المصير المشترك لشعبٍ واحدٍ، على أنّ يتحول المجتمع إلى كتلٍ سكانيةٍ وأفرادٍ منعزلين، من دون قيادةٍ، ما يعنى انتزاع فكرة التمثّيل قرينًا لنفى قضية الشعب الفلسطيني كلّه وحقوقه المشروعة.
إلى جانب عمليات تدمير القطاع، التي تعتبر جريمة حربٍ تمارسها إسرائيل، تستخدم إسرائيل مهمة إعادة الإعمار أداةً للابتزاز المشروط، وأيضًا أداةً للضغط، كما في شعار "اليوم التالي" الذي استخدم لإطالة الحرب.
لكن ورغم ثقل الواقع، وعوامل الضعف لم يكن الاستسلام يومًا خيار الفلسطينيين، ولا يمكن معالجة واقع شعبٍ يستبسل لعشرات السنين دفاعًا عن أرضه وكرامته برؤيةٍ جوهرها الإذعان، حتّى لو أصيب بانكساراتٍ، فالشعوب تستطيع إنتاج قادتها، وتنويع أساليب مقاومتها وسبُلها، وتحافظ على هويتها ووجودها وهذا سببٌ في استمرارها ضدّ الإبادة، كما للقضية الفلسطينية شرعيةٌ دوليةٌ إلى جانب وجود الشعب الفلسطيني، لذا ليس حسم الصراع بعمليات الإخضاع بالسهولة التي يتصورها زعماء الصهيونية الدينية، أو حلفاؤهم الذين انتظروا أن تكتب النهاية بحربٍ وحشيةٍ أو بالدفع نحو التهجير. إلى جانب ذلك يكسب الفلسطينيون أنصارًا جدد، رغم خسارتهم حلفاء وأصدقاء سابقين، في مشهدٍ يبدو محبطًا، خاصّةً على المستوى العربي الرسمي، لكن يظلّ الصراع واضحًا، ومواقف الشعوب دالةً في مناصرة أصحاب الحقوق المشروعة، وفضح الاحتلال الذي بات اليوم محل كراهيةٍ ومعزولًا من أصحاب الضمائر الحية كلّهم.