استمع إلى الملخص
- يشير النص إلى التحولات في الرأي العام الأوروبي تجاه السياسات الإسرائيلية، مثل احتجاجات عمال الشحن واعتراضهم على نقل الأسلحة، ورفع دعاوى قانونية ضد الحكومات الأوروبية، وسحب استثمارات من إسرائيل.
- يبرز النص الفشل الأوروبي في اتخاذ موقف موحد تجاه إسرائيل بسبب التأثير الأميركي واللوبيات الصهيونية، مما يثير تساؤلات حول كيفية تعزيز الفلسطينيين للتحولات في الرأي العام لمقاومة المخططات الإمبريالية بفاعلية.
ليس حبًّا بـ"أدونيس" استعار الكاتب عنوان هذه المقالة من كتابه الشهير "الثابت والمتحول" في التراث العربي-الإسلامي، ولا إعجابًا بـ"حسن حنفي" في ثوابته وتحولاته الفلسفية، إنّما بغرض لفت انتباه القارئ إلى وجود هذين القطبين في السياسة والدبلوماسية الدولية، والأوروبية منها خصوصًا، وفي ما يخص فلسطين عامةً، وقطاع غزّة في زمن الإبادة على وجه الخصوص.
هنا لا بدّ من التذكير بأنّ للدبلوماسية الأوروبية ثوابتها "الراسخة"، التي ليست بثوابت مطلقًا، إذ يمكن أن تخضع للتغيير والتحول والانقطاع، حتّى لو كانت "المتغيرات" متأرجحة أحيانًا، بل وزائفة بالكامل أحيانًا أخرى، لستر عورات "الثوابت"، ولتغطية الأهداف الحقيقية الكامنة وراء "التحول" الشكلي، مثل استراتيجية مناورة ميكيافيلية ومنفعية بامتياز. وما الدعوة الفرنسية المتأخرة لقيام الدولة الفلسطينية إلّا شاهدٌ على ذلك.
يتلخص جوهر العمل الدبلوماسي في "المراقبة" و"التحليل" لاشتقاق استراتيجيات "التفاوض" الملائمة، وأخيرًا لـ"تسويق" سياسةٍ مرسومةٍ سلفًا، بل وصل الأمر بـ"كونديّاك"Condillac، فيلسوف عصر الأنوار الفرنسي، إلى التلميح بأنّ الدبلوماسي هو الوجه الآخر لـ"الجاسوس" المحترف، الذي يتحول إلى جاسوسٍ وتاجرٍ رأسماليٍ في زمننا الراهن.
يمكننا القول إذًا بأنّ الدبلوماسية الأوروبية، في زمن الإمبريالية المصرفية الراهن، وعودة الاستعمار بحلته النيوكولونيالية المتجددة، ما هي إلّا أداة إخضاعٍ وسيطرةٍ لتحقيق مصلحة تقاسم الأسواق بين المراكز الإمبريالية، وتحديدًا في ظلّ المنافسة القوية بين ضفتي الأطلسي الأوروبية والأميركية.
لم يعد التنافس الاقتصادي على مناطق النفوذ تنافسًا، بل تحول إلى تسابقٍ بينهما لما فيه مصلحة وليدتهما المُدللة إسرائيل، بوصفها مستعمرةً أوروبيةً وغربيةً بامتياز، وبما هي امتدادٌ لهذا الغرب الاستعماري الإمبريالي بمصالحه الحيوية، وتقلباته الأيديولوجية أيضًا.
لقد أدت اتّفاقية الشراكة هذه إلى دعم النمو المتسارع للعلاقات الاقتصادية بين الجانبين، عبر توسيع نطاق التجارة في السلع والخدمات، وتسهيل حركة رؤوس الأموال
إذا كنا نعرف بوضوح تكلفة إسرائيل لدافع الضرائب الأميركي (وفقًا للسناتور الديمقراطي الأميركي بيرني ساندرز، فقد بلغت المساعدات الأميركية لإسرائيل منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حتّى أغسطس/ آب 2025 ما قيمته 22 مليار دولار، كما غطت الولايات المتّحدة ما نسبته 70٪ من تكاليف الحرب الحالية على قطاع غزّة)، فإننا نعرف القليل عن تكلفة إسرائيل لدافع الضرائب الأوروبي. ما نعرفه جيدًا هو علاقة التحالف والتكامل بين إسرائيل والاتّحاد الأوروبي، إذ أطرّت "اتفاقية سياسة الجوار الأوروبية" العلاقة بين الطرفين، وتبعتها "اتّفاقية الشراكة في البحر المتوسط"، و"اتّفاقية منظّمة الاتّحاد من أجل المتوسط"، التي تُوّجت بعقد "اتّفاقية الشراكة" عام 1995 بين إسرائيل والاتّحاد الأوروبي.
جعلت هذه الاتّفاقيات الاستراتيجية من إسرائيل عضوًا غير معلنٍ في الاتّحاد الأوروبي، عبر معاملتها بالأفضلية للوصول إلى الأسواق الأوروبية، وتنظيم التجارة الحرة للمنتجات الصناعية، ومنح الامتيازات الزراعية والضريبية، ما جعل الاتّحاد الأوروبي أكبر شريكٍ تجاري لإسرائيل (28.8٪ من تجارة السلع الإسرائيلية في عام 2022 كانت مع الاتّحاد الأوروبي، وهي نسبةٌ في ازديادٍ منذ ذلك الحين).
من جهةٍ أخرى، تستفيد إسرائيل من برامج البحث والتمويل الأوروبي، مثل برنامج هوريزون Horizon، وهو برنامج بتمويلٍ ضخمٍ لدعم البحوث في مجال البحوث الأوروبية "والإسرائيلية" وتعزيزها تباعًا، والذي جرى توقيف العمل به مؤقتًا على ضوء الإحراج الذي تسببه حرب الإبادة في قطاع غزّة.
لقد أدت اتّفاقية الشراكة هذه إلى دعم النمو المتسارع للعلاقات الاقتصادية بين الجانبين، عبر توسيع نطاق التجارة في السلع والخدمات، وتسهيل حركة رؤوس الأموال، وتعزيز التعاون في مجالات العلم والتكنولوجيا الرقمية والعسكرية والأمنية.
يورد "نيك ميليت" Nick Millett، الباحث والأستاذ الجامعي في جامعة لا بورغونيون في ديجون-فرنسا، معلومة عن استخدام 200 مدينة فرنسية للتكنولوجيا الإسرائيلية في المراقبة الرقمية لخوارزميات، تكنولوجية VSA، ما يجعل من إسرائيل عضوًا تكوينيًا في البُنى الأمنية الأوروبية.
جعلت جملة هذه الاتّفاقيات من إسرائيل في المرتبة 31 ضمن قائمة شركاء الاتّحاد الأوروبي التجاريين، وفي المرتبة الثالثة إقليميًا، في منطقة البحر الأبيض المتوسط. لذا يُعد الاتّحاد الأوروبي الشريك التجاري الأبرز لإسرائيل. لكن هذا الشريك التجاري، ورغم امتلاكه أداة ضغطٍ كبيرةٍ على السياسة الإسرائيلية، إلا أنّه لا يمتلك الإرادة السياسية لترجمة رفضه "الخجول" لسياسة الإبادة في قطاع غزّة، ولا لتليين السياسة الترامبية المتواطئة كليًا مع الإبادة، ومشاريع التهجير والتطهير العرقي في قطاع غزّة (وفي الضفّة الغربية).
لقد توهم بعضهم، بعد الرسوم الجمركية الباهظة، التي فرضتها إدارة ترامب، أن حلفًا أوروبيًا سينهض لمواجهة السياسات الأميركية، لكن هذه الأوهام تبددت سريعًا بعد أن كشفت التقارير الاقتصادية الأخيرة عن ارتفاعٍ ملحوظٍ في مشتريات الاتّحاد الأوروبي من الغاز والنفط الأميركي (750 مليار دولار)، وشراء أسلحةٍ أميركيةٍ بقيمة 700 مليار دولار، وعليه لم تكن زيادة الرسوم الجمركية على الصادرات الأوروبية إلى الولايات المتّحدة بنسبة 15٪ سببًا لتبني سياساتٍ أوروبيةٍ مستقلةٍ عن الحليف الأطلسي. لقد نجح دونالد ترامب في فرض هذه السياسة الضرائبية على الاتّحاد الأوروبي استجابةً لمطالب رأس المال المالي الأميركي.
إن النصر الترامبي هذا على "القارة العجوز" سيحوّل مئات مليارات الدولارات إلى خزائن الرأسماليين الأميركيين، ولتتباهى وزارة الخزانة الأميركية باسترداد 87 مليار دولار من الرسوم الجمركية خلال الأشهر الستة الماضية فقط، وهو رقمٌ قياسيٌ بالفعل.
رضوخ القادة الأوروبيين، وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لهذه الاشتراطات الأميركية، بشأن شكل العلاقة بين أوروبا والولايات المتّحدة ومضمونها، يجعل من "المناورة" الفرنسية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية فاقدةً للمصداقية، إذ لا ترتبط بتفعيل أدوات الضغط الاقتصادي، لإجبار إسرائيل على وقف مجازر قطاع غزّة، كما لا تمتلك أيّ قدرةٍ على التأثير (وليس التغيير) على المواقف الأميركية المتواطئة مع إسرائيل، وحرب الإبادة، وذلك لخضوعها للسياسة الترامبية.
جعلت هذه الاتّفاقيات الاستراتيجية من إسرائيل عضوًا غير معلنٍ في الاتّحاد الأوروبي، عبر معاملتها بالأفضلية للوصول إلى الأسواق الأوروبية، وتنظيم التجارة الحرة للمنتجات الصناعية
هنا لا بدّ من التنويه إلى أنّ استخدام مفردة "الرضوخ" هو استخدامٌ مجازيٌ، إذ الأحرى بنا الحديث عن "التقاء المصالح" بين القوى الرأسمالية الدولية، التي تتزعمها الولايات المتّحدة من جهةٍ، والتي تقع إسرائيل في مركزها من جهةٍ أخرى. و "التقاء المصالح" هو ما يمكن أن نسميه "الثابت" المترسخ في بنية الإمبريالية في آخر نسخها الرأسمالية المالية والمصرفية.
أما "المتحول" فهو موقف المجتمع المدني الأوروبي وقواه الحية من قوى سياسية ونقابية، وطلابية وشبابية وحقوقية. والأمثلة على التحولات الجذرية في الرأي العام الغربي والدولي كثيرة، وأهمها:
• في 2025/8/10، اعترض عمال الشحن في ميناء "جنوى" الإيطالي سفينةً سعوديةً مُحملةً بالأسلحة قيل إنها متجهةٌ إلى إسرائيل. وقبلها في 2025/6/5، رفض عمال النقابة الفرنسية CGT, تحميل شحنةٍ من الأسلحة الفرنسية المتجهة إلى إسرائيل. وفي بلجيكا، عبرت النقابات العمالية في مطار وميناء مدينة "لييّج" عن رفضها المشاركة في حرب الإبادة في قطاع غزّة.
• في 2025/7/29، رفع تجمعٌ حقوقيٌ فرنسيٌ، ضمّ 114 محاميًا فرنسيًا يقدمون دعوى لدى محكمة الجنايات الدولية، ضدّ الدولة الفرنسية، ورئيسها "ماكرون" لمشاركتهما في حرب الإبادة في قطاع غزّة.
• في نهاية يوليو/تموز الماضي، وتحت ضغط الاحتجاجات في جميع أنحاء أوروبا، بدأت المفوضية الأوروبية في مراجعة، واقترحت (أخيرًا)، تعليقًا (جزئيًا) لمشاركة إسرائيل في صندوق أبحاث Horizon. من الصحيح أنّه قرارٌ متأخرٌ ولكنه صدعٌ أول في جدار التواطؤ الرسمي الأوروبي مع الإبادة.
• في 2025/7/27، الوكالة الوطنية للأمن القومي في "هولندا" تدرج "إسرائيل"، لأوّل مرّةٍ، على قائمة الدول التي تشكل تهديدًا للبلاد، ولأمنها القومي.
• في 2025/8/14، قرر صندوق الثروة السيادي النرويجي سحب جميع استثماراته من إسرائيل، وهو من أغنى الصناديق التمويلية في العالم.
لقد أدت هذه التحولات في الرأي العام الأوروبي إلى إحداث بعض التأثير على "ثوابت" صناع القرار الأوروبي، رغم كونهم جزءًا عضويًا من المنظومة الإمبريالية، التي تُعتبر إسرائيل مستعمرتها المدللة، ورأس حربتها لإخضاع المنطقة العربية. وقد تجسد الانقسام الأوروبي الرسمي بشأن معاهدة الشراكة مع إسرائيل: فبينما عارضت ألمانيا وهنغاريا والنمسا وجمهورية التشيك وهولندا تعليق العمل بالاتّفاقية، دعت فرنسا وإيرلندا إلى مراجعةٍ جادةٍ لها على ضوء ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزّة، لتنضم هولندا أخيرًا، على نحوٍ مفاجئ، إلى هذه الدعوة.
بناء عليه، يكشف الفشل الأوروبي في اتخاذ موقف بالإجماع عن قوّة التأثير الترامبي في صناعة القرار الأوروبي من جهة، وعن النشاط المحموم للوبيات الدعم الصهيونية في أوروبا من جهةٍ أخرى.
يعيش قطاع غزّة محنته في خضم هذه المناورات الدبلوماسية الخبيثة، التي تحاول التستر على المشاركة في حرب الإبادة، عبر تسويق الأوهام والوعود الزائفة بشأن الحقوق الفلسطينية (وهم الدولة الفلسطينية)، في ما تواجه القضية الفلسطينية برمتها خطر التصفية المرتبطة عضويًا بالمخططات الإمبريالية-الصهيونية. هنا يبقى السؤال المركزي: كيف يمكن للفلسطينيين تعزيز "المتغير" الأوروبي والدولي لمقاومة المخططات الإمبريالية بفاعلية؟ كي يتحول هذا المتغير، الذي يحاول المجتمع المدني الأوروبي فرضه، إلى جزءٍ من موازين القوى في صراعنا ضدّ السياسات الإجرامية لهذا الحلف غير المقدس بين رأس المال الأوروبي- الأميركي ودولة إسرائيل.