لبنان "الفاشل"... الوِصاية بديلاً من الدولة
لا يبدو قول المبعوث الأميركي الخاص توم برّاك في "حوار المنامة" (السبت الماضي) إن لبنان "دولة فاشلة" توصيفاً تقنياً لانهيار اقتصادي، بقدر ما هو إعلان سياسي يعكس نظرة واشنطن إلى لبنان: بلداً فاقداً أهلية الحكم الذاتي، ويحتاج من يُعيد تأهيله سياسياً واقتصادياً، وربّما أمنياً. ومن بين حُزم "الحلول" التي يقترحها برّاك: نزع سلاح حزب الله، وإجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل. لكن ما يتغافل عنه المبعوث الأميركي أن "انهيار" لبنان لم يحدث بين عشية وضحاها، بل فُكّك البلد في ثلاثة عقود عبر منظومة فساد داخلية رعَتها النخب الحاكمة، بالقدر نفسه الذي رعَتها فيه القوى الغربية ومؤسّسات التمويل الدولية. حوّلت الولايات المتحدة وفرنسا (ومعهما البنك وصندوق النقد الدوليان) لبنان مختبراً مالياً لخدمة استقرار نقدي يخدم مصالحهما، لا استقرار اقتصادي يخدم اللبنانيين. وحين دعم الغرب سياسة تثبيت سعر الصرف بالدَّين، كان يدرك أنها وصفة جاهزةً للانفجار، وحين يتحدث برّاك (تاجر العقارات) عن "نظام مصرفي مُفلِس"، يتناسى أن هذا النظام، ورياض سلامة نفسه، حظيا بدعم سياسي ومالي غربي، ليوفّرا واجهةَ استقرار شكلي... لا يصف برّاك انهيار لبنان بقدر ما يتبرّأ من دور غربي في هشاشته.
أمّا حزب الله، الذي يراه برّاك دولةً قائمة بذاتها في الجنوب، فهو نتاج الفراغ والاحتلال. نما في ظلّ ضعف الدولة، وترسّخ موقعه مع انحسار القوى العسكرية الأخرى، وحين صار الاقتصاد شبكةَ مصالح طائفية متداخلة، وصارت مؤسّسات الدولة عاجزةً عن تأمين الحدّ الأدنى من الحماية والخدمات. وعندما يقول برّاك إن الحزب يؤمّن الرواتب والمياه والتعليم في الجنوب، فهو يصف تبعات عجز الدولة، لا سبب انهيارها. وليست المشكلة في الحزب فحسب، بل في غياب البديل الوطني، فالجيش اللبناني، الذي يتفوق عليه الحزب، ويُفترض أن يكون عماد الدولة، يعاني الفقر والتهميش. في معادلة مثل هذه، فإنّ الحديث عن نزع السلاح قبل استعادة الدولة ضربٌ من العبث السياسي، فالسلاح وسيلة للبقاء أيضاً، لا مجرّد أداة للهيمنة. ودعوة برّاك إلى مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، ليست سوى اختزال للأزمة في الأمني، وقفز فوق جوهرها السياسي والتاريخي؛ فكيف يمكن لدولة لا تملك قرار الحرب والسلم، منقسمة داخلياً ومفلسة اقتصادياً وفاقدة للسيادة بالاحتلال وخروقاته، أن تدخل مفاوضات من موقع الندّية؟
يُخفي توصيف لبنان "دولة فاشلة" جوهر المشكلة الأعمق: فشل فكرة الدولة نفسها كما صيغت منذ الاستقلال (1943)، دولة الطوائف لا المواطنة، دولة المحاصصة لا القانون، ودولة الاستثمارات الخاصة لا القطاع العام. لم تكن هذه الهشاشة عَرَضاً تاريخياً، بل مشروعاً استمرّت القوى الداخلية والخارجية في رعايته، بل كان الانهيار فرصةً يعيد معها الغرب ترتيب خرائط النفوذ في المنطقة، ولمزيد من الوِصاية على لبنان الذي أدمنت نخبه السياسية إدارة الانهيار مشروعاً للثراء، فصارت الأزمات ذرائع لقوانين مؤقّتة، أو عقود طارئة، أو لمَنح صلاحيات استثنائية تُمكّن فاعلين محدّدين من تركيز القرار، ولتقنين ممارسات غير شفّافة. لذلك تحوّلت مقولة "قوة لبنان في ضعفه" غطاءً أيديولوجياً للوِصاية والخضوع، وتعلّمت الطبقة الحاكمة أن إدارة الضعف أكثر ربحاً من إدارة الدولة. في هذه المعادلة المقلوبة، التي تعاد اليوم تحت عنوان "لبنان الفاشل"، يبقى المواطن اللبناني ضحيةً دائمةً، يعيش بين وعود خلاص تتقاذفها واشنطن وصندوق النقد وحكومات بيروت، فيما يُقبل المجتمع الدولي مانحاً يطالب بإصلاح مستحيل يهدّد مصالح شركائه المحلّيين.
يبدأ إنقاذ لبنان من الداخل، من إعادة بناء ثقة المواطن بالدولة، ومن لجم الاعتداءات الإسرائيلية التي تجعل فكرة المقاومة مبرَّرةً في الوجدان الشعبي، ومن إصلاحٍ سياسي واقتصادي يسبق أيَّ حديث عن نزع السلاح. حين تصبح الدولة قادرة على حماية حدودها، وتوفير الحدّ الأدنى من العدالة والكرامة، يمكن مناقشة سلاح الحزب ملفّاً سياسياً، لا مصيرياً. فأيّ دعوة إلى نزع السلاح في غياب الدولة هي وصفة لتفكيك ما تبقّى منها.
ليست قوة لبنان في ضعفه، بل في قدرته على تحويل أزماته وعياً جمعياً بأن إحياء الدولة يكون بإرادة وطنية تُعيد تعريفها عقداً اجتماعياً جديداً يوازن بين الكرامة والسيادة والعدالة.