... عن التحديث و"فضائل" الغُزاة

02 مايو 2025   |  آخر تحديث: 02:54 (توقيت القدس)

(إبراهيم الصلحي)

+ الخط -

"قد علمنا ممّا كُتب لنظارة الداخلية من مديرية الشرقية بالتلغراف، أن مديرها أخذ جملة أنفار من أهالي مديريته وتوجه بهم إلى جهة "شالوفة" لإصلاح وترميم ما وقع من التهدم بجسر سكة الحديد... ولا يخفى أن هذا الإجراء لا ينطبق على القواعد الأساسية المتبعة، ولا يوافق نصوص الأوامر السامية المصرحة بأنه لا يجوز تكليف الأهالي بعمل من الأعمال، إلا إذا كان عائداً عليهم بالمنفعة العمومية، كريّ مزروعاتهم، وحفظ أراضيهم وبلادهم من غوائل الغرق فقط... وعلى المديرين والأهالي أن ينتبهوا لمثل هذه القوانين الثابتة ويراعوها حقّ المراعاة، ويعلموا أنه لا سلطة للمدير أو غيره على أحد من أهالي البلاد إلا في ما يعود إليهم بالمنافع العامّة فقط". من كتاب نظارة الداخلية إلى مديرية الشرقية، نُشر في الوقائع المصرية في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 1880.
... يشير النص بما لا يترك مجالاً للجدال إلى أن الدولة المصرية (قبل الاحتلال البريطاني) كانت تتخذ من إجراءات العدالة والمحاسبة ما يحمي الحقوق العامّة للمواطنين أو الأهالي كما كان يُطلق عليهم في ذلك الزمان، وهو الأمر الذي ينقض ويخالف رواية فضائل المحتل وعظيم إحساناته على البلاد المصرية، حيث كان الركود الشرقي أساس دعاوى الاحتلال عند قدومه إلى الشرق، فادعاء الفضيلة والنوايا الطيبة من وراء الاحتلال، وليس إبراز حقيقة المصالح الاقتصادية والسياسية والهيمنة، وهو ما أراده المعتمد البريطاني، اللورد كرومر (تقلّد منصبه من 1883-1907)، بقوله: "إن الرجل الإنكليزي جاء إلى مصر بفكرة ثابتة مفادها أن لديه مهمة تعين عليه تنفيذها، وأنه في ضوء وجهات نظره وآرائه عن تحقيق العدالة بين الأفراد، والمساواة بين الناس أمام القانون، وتحقيق السعادة لأكبر عدد ممكن من السكّان سيكون من الطبيعي أن يفهم مهمته في هذا الإطار".

يُصرّ المُحتلّ على أنه بقدومه وُلِدت مرحلة تاريخية جديدة، لم يفطن لها أبناء البلد في حاضرهم، وتاريخهم البعيد

ويُصرّ المُحتلّ على أنه بقدومه وُلِدت مرحلة تاريخية جديدة، لم يفطن لها أبناء هذا البلد في حاضرهم، وتاريخهم البعيد، وهو ما ذكره اللورد كرومر عندما تحدّث عن أن الشعب المصري "يعاني من سوء الحكم والقمع على أيدي مختلف الحكام، بدءاً من الفراعنة إلى الباشوات"، وبقي هذا الحال سائداً لأكثر من ستّين قرناً، كما قال.
قبل قُدوم الاحتلال البريطاني، نَسبَ نابليون إلى حملته (1798) مهمة تحرير مصر من ظُلم المماليك، فهو من على ظهر السفينة أوريانت، قبالة السواحل المصرية، يرسل رسالة إلى المصريين يقول فيها "ما قدمت إليكم إلا لأخلّص حقّكم من يد الظالمين". غير أن نابليون نفسه وجّه خطاباً مختلفاً إلى جنوده قبيل مغادرتهم ميناء طولون الفرنسي في يونيو/ حزيران 1798، إذ خاطبهم بقوله: "أيها الجنود! أنتم على وشك القيام بغزو سيكون له أثره الكبير على الحضارة والتجارة، فالهجمة التي ستقومون بها (عاجلاً) ضدّ إنكلترا ستكون الأفضل والأكثر تأثيراً حتى يحين الوقت الذي يمكنكم فيه توجيه ضربة الموت لها"، فالخطاب يتغيّر وفقاً لطبيعة الجمهور، غير أن المصلحة والدافع الحقيقي للحملة يتركّز في فرض الهيمنة الاقتصادية والسياسية في إطار الصراع مع انكلترا؛ والحيلولة دون التوسّع الإنكليزي في مصر، التي كان حكّامها المماليك يعقدون صفقات تجارية واسعة مع التجار الإنكليز، وهو ما ذكره نابليون نصّاً في خطابه إلى جنوده، عندما قال لهم: "المماليك يحتكرون التجارة مع الإنكليز، ويظلمون تجارنا".
وتظهر عبارات تشير إلى النظرة الدونية إلى المصريين، واضحة في خطاب المُحتلّ، فنابليون يذكّر في خطابه إلى الحكومة الفرنسية (حكومة الإدارة الفرنسية آنذاك)، بتاريخ 24 يوليو/ تمّوز 1798، بأنه "من الصعب أن تجد أرضاً أكثر خصوبةً، وشعباً أكثر بؤساً وجهلاً ومذلّة، فهم يفضلون زِراً من أزرارِ جنودنا على قطعة معدنية من عُملة الستة فرنكات، وفي القرى، لا يعرفون حتى المقصّ... بيوتهم مبنية من الطين فقط، أثاثهم الوحيد هو حصيرة من القشّ واثنان أو ثلاثة أوانٍ فخّارية".

شدّد إيتان باليبار على أن الحريات والمساواة تتحوّلان في المجتمع الليبرالي أداتين للهيمنة الأيديولوجية على الجماهير

وذلك الخطاب يكشف استهانته بالمصريين ومستوى تطوّر معيشتهم ووعيهم، فتختفي عبارات التقدير والتبجيل، وتظهر عبارات الاحتقار، بل وعبارات استشراقية، بما يعكس طبيعة النظرة المركزية الأوروبية إلى الشعوب الشرقية، القائمة على الغرابة في رؤية المُستعمِر للمُستعمَر، وباتت تقوم على وعي المُحتلّ بأنه أماط اللثام عن شعوب متأخّرة، أو كما وصف بونابرت (في خطابه إلى جنوده) المصريين بأنهم مساكين، ووصفهم كرومر بأنهم سُذجّ، ومن ثمّ يأتي دور المُحتلّ في تنمية وتدريب وتحديث المجتمع والسكّان، فأنماط معيشتهم وثقافاتهم يجب أن تُدار بإدارة وسياسة المُحتلّ من دون النظر إلى خصوصيّتهم وطبيعة علاقاتهم الاجتماعية، فالتحديث نموذج ووصفة حتمية يجب تجرّعها بلا مقاومة.
ولا يمارس المُحتلّ تلك العملية بمفرده، بل يعتمد على خلق قوىً اجتماعيةٍ ترتبط بمصيره، وتنشر رؤيته، سواء كان الارتباط بحكم الضرورة، أو قبولاً لمنطق الاحتلال. ويطلق ابن خلدون على أعوان الاستعمار "المُصطنَعون"، أو كما قال عنهم: "فإذا اصطنع أهل العصبية قوماً من غير نسبهم... ضرب معهم أولئك الموالي والمُصطنَعون بنسبهم في تلك العصبية ولبسوا جلدتها كأنّها عصبتهم وحصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها"، وكان بعض المشايخ والعلماء (وهم صفوة ذلك الزمان)، أول من دخل للضرورة في طاعة صاري عسكر نابليون؛ فعقب ثورة القاهرة الأولى، استعان نابليون بالمشايخ الذين وجّهوا نداء للثائرين جاء فيه "نصيحة من علماء الإسلام كلفة بمصر المحروسة، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونبرأ إلى الله من الساعين في الأرض بالفساد... وأشرار الناس الذين حرّكوا الشرور بين الرعية وبين العساكر الفرنساوية، بعدما كانوا أصحابنا وأحبابنا بالسوية، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين ونهبت بعض البيوت، ولكن حصلت ألطاف الله الخفية، وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته، وارتفعت هذه البلية؛ لأنه رجل كامل العقل، عنده رحمة وشفقة على المسلمين ومحبة للفقراء والمساكين، ولولاه لكانت العسكر أحرقت جميع المدينة ونهبت جميع الأموال، وقتلوا كامل أهل مصر"، وهو خطاب ينتصر تماماً للمُحتلّ، بل ويشكره على عدم إبادة المصريين وتدمير القاهرة الثائرة، تماماً كما كان بعض الوجهاء يشكرون قيادة الاحتلال البريطاني أن خلّصتهم من العاصي أحمد عرابي، وكان الخديوي توفيق نفسه (كما روى الأستاذ الإمام) لامبالياً بضرب مدينة الإسكندرية، وعندما طلب منه أحد المسؤولين التدخّل، قال ساخراً: "فلتحرق المدينة جميعها ولا يبقى فيها طوبة على طوبة، حرب بحرب، ذلك كلّه يقع على رأس عرابي، وعلى رؤوس أولاد الكلب الفلاحين".

كان تاريخياً ومتوقّعاً أن يتطوّر خطاب الاحتلال من التحديث ورفع الظلم عن الشعوب إلى الإبادة والتهجير من أجل الحضارة ومحاربة التطرّف

وقد توجّه أحد الصحافيين الموالين للاحتلال بالشكر له بالقول: "هل نُلام إذا شكرناهم وفاء للدين الجميل؟"، وكان يقصد إنقاذ البلاد من الفوضى، وهو ما عبّر عنه كرومر نفسه بالقول: "إن وجود الاحتلال الأجنبي كان ولا يزال أمراً ضرورياً لمنع حدوث الفوضى في مصر". وتتكرّر العبارات ذاتها بصورة مقاربة في حالة القضية الفلسطينية، فترفض حكومة الاحتلال الإسرائيلي أن تمنح أيّ صفة رسمية للشعب الفلسطيني ومطالبه في الاستقلال والدولة الوطنية، فيعتبرونها تمثّل خطراً وإرهاباً مؤسّسياً محتملاً، في الوقت نفسه الذي تعاد فيه عملية إبادة منظّمة لقطاع غزّة وأراضي الضفة الغربية، من أجل تدمير النظام الاجتماعي الفلسطيني والضغط غير الإنساني على الشعب الفلسطيني ليترك وطنه ويرحل إلى أيّ مكان، وذلك في الوقت الذي لا يترك الاحتلال أيَّ خيار آخر، فحتى خيار الحكم المباشر كما تتجلّى بعض مؤشّراته في الضفة الغربية يعني الاستباحة اليومية والهدم والاعتقال والقتل، وذلك في الوقت الذي تروّج فيه إسرائيل وأدواتها ومسؤوليها أنها تخوض حرباً نيابةً عن العالم المتحضر ضدّ التطرّف، من أجل إجهاض مشروع الخلافة المزعوم، وهي العُقدة ذاتها التي انطلق منها كلّ مفكّري الاحتلال السابقين، إذ اتهموا الشعوب الشرقية بالتعصّب الديني والتأخّر الحضاري، كما قال اللورد كرومر عن المصريين "كلّ ما لدى هذا الشعب يدلّ على وجود تعارض شديد مع عادات الأمم الأوروبية"، وتقوم تلك الادعاءات على تسهيل وتبرير هيمنة الغرب على تلك الشعوب، ونهب حقوقها، بل وحياتها ومستقبلها، وحريتها، كما يجري للشعب الفلسطيني باسم الحضارة الغربية التي تقف صامتةً (أو عاجزةً) عن فعل أي شيء لإيقاف الإبادة، أو منح الشعب الفلسطيني أيّ حقوق سياسية أو إنسانية. إنه عالم جديد للتنكيل واحتكار حقّ التخلّص ممّن يقاوم الاحتلال؛ بلا أيّ قيم أو قوانين إنسانية، وقد كان الفيلسوف الفرنسي إيتان باليبار مدركاً لهذه الازدواجية عندما شدّد على أن الحريات الرسمية والمساواة القانونية تتحوّلان في المجتمع الليبرالي أداتين للهيمنة الأيديولوجية على الجماهير، وهو الأمر ذاته الذي نراه بوضوح في السياسات الغربية التي تدّعي العقلانية والحداثة، بينما تقمع كلَّ من يطالب بحقوق الشعب الفلسطيني. وهو الأمر الذي يؤكّد رؤية ونقد إدوارد سعيد لخطاب الاستشراق الغربي، الذي يتصوّر الشعوب الشرقية متوحّشةً ومتخلّفةً تريد تدمير الحضارة، ومن ثمّ كان تاريخياً ومتوقّعاً أن يتطوّر خطاب الاحتلال من التحديث ورفع الظلم عن الشعوب إلى الإبادة والتهجير من أجل الحضارة ومحاربة التطرّف، بل واعتبار أن ما يجري مهمّةً حضاريةً تضاف إلى فضائل الغزاة.