العرب أمام اختبار الصراع الوجودي مع إسرائيل
شكّل العدوان الإسرائيلي على الدوحة أكثر من مجرّد انتهاك للقانون الدولي أو تصعيد عسكري ظرفي، إذ تحوّل إلى محطّة مفصلية أعادت رسم معادلة الصراع العربي– الإسرائيلي في أبعاده الوجودية. ... للمرّة الأولى تُستهدف دولة خليجية على أرضها بشكل مباشر، وللمرّة الأولى، يجد العرب أنفسهم أمام تحدٍ لا يطاول "جبهات المواجهة التقليدية" في فلسطين ولبنان وسورية فحسب، وإنما يتجاوزها إلى فضاءاتٍ طالما اعتُبرت بعيدةً عن دائرة النار. ما جرى في الدوحة هو استمرارٌ لمنطق استعماري توسّعي، يختبر حدود الممكن في إخضاع العرب جميعاً.
ينطوي استهداف قطر في سياق استهداف الوفد المفاوض لحركة حماس على رسالةٍ تتجاوز الجانب العسكري. إنه ضربٌ لبنية الوساطة العربية التي شكّلت تقليدياً أحد ملامح الدور الخليجي، فحينما تتحوّل العاصمة التي تستضيف التفاوض إلى ساحة اغتيال، فإن إسرائيل تقول، بوضوح، إنه لم يعد هناك مجالٌ لعربٍ "محايدين"، فإما الانخراط في منظومة التطبيع والخضوع أو التعرّض للضرب. من هذا المنظور، تصبح قطر رمزاً لكرامةٍ مهدّدة، ولخياراتٍ عربيةٍ محاصرةٍ بين الهيمنة أو المقاومة.
في التحليل النظري للأمن القومي الإسرائيلي، يتضح أن "الأمن" لم يعد يُعرَّف بحماية حدود الكيان، بل بامتلاك القدرة على التدخّل والضرب في أي فضاء عربي أو إقليمي يُحتمل أن يمسّ بمصالحه. هذه العقيدة، التي تُعرف في الأدبيات الأمنية بـ"الأمن المتوسّع"، تمثل جوهر المشروع الصهيوني منذ نشأته، من خلال تحويل المحيط العربي إلى فضاء مراقَب ومروَّض. وقد كان العدوان على الدوحة وتونس امتداداً لهذا المنطق، الذي يهدف إلى تكريس الهيمنة. كما أن استهداف "أسطول الصمود" العالمي في تونس يؤكد أن العدوان الإسرائيلي ليس موجّهاً ضد السلاح فحسب، لكنه موجه أيضاً ضد الرمزية العربية في ذاتها. أسطول مدني، متعدّد الجنسيات، لا يملك قوة عسكرية، لكنه يحمل دلالةً على أن الشعوب لا تزال ترى في فلسطين قضيتها المركزية. ضرب هذا الأسطول هو ضرب لذاكرة التضامن، تماماً كما كان استهداف سفينة "مافي مرمرة" التركية في 2010 محاولة لتجريم التعاطف المدني. بذلك تتحوّل تونس إلى حلقة في سلسلة المواجهة القومية، حتى وإن لم تكن طرفاً مباشراً في الحرب.
إسرائيل تقول، بوضوح، إنه لم يعد هناك مجالٌ لعربٍ "محايدين"، فإما الانخراط في منظومة التطبيع والخضوع أو التعرّض للضرب
في البنية النظرية للقومية العربية، يُفهم الصراع مع إسرائيل وجودياً، إذ يتجاوز الجغرافية المباشرة. الأمة العربية، وفق منظور ساطع الحصري وقسطنطين زريق وغيرهما من روّاد الفكر القومي، لا تُختزل في حدود قُطرية ضيقة، بل هي كيان حضاري– تاريخي واحد. استهداف قطر وتونس وسورية خلال 24 ساعة يؤكد أن إسرائيل نفسها تنظر إلى العرب بوصفهم وحدةً ينبغي إخضاعها. ومن هنا، يجب أن يكون الردّ في وعي قومي يضع هذا العدوان في سياقه الوجودي الشامل. يؤشّر هذا الامتداد الجغرافي إلى انتقال إسرائيل من سياسة احتواء "الخاصرة القريبة" إلى استراتيجيةٍ توسّع ميداني يستهدف محيطاً عربياً أوسع، بما يتجاوز منطق "الرد التكتيكي" إلى فرض معادلة جيوسياسية جديدة.
ويطرح العدوان الإسرائيلي أخيراً أسئلة أساسية حول طبيعة التحوّل في منطق القوة الإسرائيلي. هل نحن أمام لحظة مفصلية تعيد إنتاج الصراع العربي– الإسرائيلي في صورة أكثر شمولاً، أم أن ما يجري يندرج في مسار تثبيت الهيمنة وتكريس معادلة الردع الأحادي؟ يترجم وصف صحف إسرائيلية الغارة على الدوحة بأنها "تاريخية" إدراكاً إسرائيلياً بأن كسر هذا المحرّم يفتح أمامها هامشاً أوسع لإعادة تعريف قواعد الاشتباك.
يضع العجز الدولي على عاتق العرب مسؤولية مضاعفة، ليس فقط دفاعاً عن فلسطين قضية قومية، وإنما دفاعاً عن القيم الإنسانية في ذاتها
ليس الموقف المطلوب اليوم مجرّد تضامن ظرفي، وإنما استعادة الوعي بأن كل عدوانٍ على أي بلد عربي هو عدوان على العرب جميعاً. لم تكن قطر وحدها المستهدفة، وإنما الكيان العربي كله. ومن هذا المنظور، المطلوب إعادة تفعيل منطق "الأمن القومي العربي" ليس كخطاب سياسي مستهلك، وإنما كإطار نظري وعملي يُعيد تعريف الأولويات، ويُحوّل التهديد الإسرائيلي إلى مجال تعبئة جماعية. يعيد التغاضي عن هذا البعد إنتاج الضعف ويُدخل العرب فرادى إلى دائرة الاستهداف.
يمكن قراءة العدوان على الدوحة ضمن خط متصل من السوابق التاريخية التي كرّست مركزية فلسطين في المشهد الدولي. فما يجري اليوم يذكّر أيضاً بالغارة التي استهدفت مقرّ منظّمة التحرير الفلسطينية في تونس عام 1985، حيث تحوّلت جريمة واحدة إلى لحظة انكشاف للنظام الدولي وعجزه عن حماية السيادة العربية.
إدخال فضاءات عربية في دائرة الاستهداف يترك أثره العميق على الوعي الجمعي العربي. ووفق نظريات "التعبئة السياسية عبر الخطر الخارجي"، يمكن أن تفضي هذه الصدمات إلى إعادة توجيه الرأي العام نحو مساحاتٍ جديدةٍ من الوحدة والعمل الجماعي، رغم الانقسامات الداخلية. استهداف مناطق بعيدة عن الصراع المباشر يضاعف الشعور بأن القضية كانت ولا تزال لا تخصّ الفلسطينيين وحدهم، بل ستبقى تطاول المجال العربي برمّته.
لم تعد إسرائيل تستهدف المقاومة في غزّة فحسب، بل تضع يدها على مفاصل السيادة العربية من الخليج إلى المغرب
لا يمكن قراءة العدوان الإسرائيلي على الدوحة بمعزل عن البنية المستمرة للعدوان على غزّة، فالمحرّك المركزي لهذا التوسّع يبقى إرادة سحق الشعب الفلسطيني. وغزّة، بما تمثّله من رمز للصمود والممانعة، تُستهدف منذ سنوات في عملية إبادة ممنهجة تتجاوز البعد العسكري لتطاول المجال الاجتماعي– الإنساني بأسره. من منظور القانون الدولي الإنساني، ما يجري في القطاع يشكل حالة نموذجية لـ"العقاب الجماعي"، وهو جريمة موصوفة، تتعارض مع اتفاقيات جنيف ومعايير العدالة العالمية. وهذه الهمجية جزء من عقيدة أمنية صاغتها المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية منذ النكبة عام 1948. في هذا السياق، يُفهم التصعيد الإسرائيلي أنه تجسيدٌ لمقولة موشيه دايان الشهيرة عن "العيش بالسيف إلى الأبد"، أي تحويل العنف إلى أداةٍ دائمة للوجود.
يضع العجز الدولي على عاتق العرب مسؤولية مضاعفة، ليس فقط دفاعاً عن فلسطين قضية قومية، وإنما دفاعاً عن القيم الإنسانية في ذاتها. ففلسطين اليوم تحوّلت إلى معيار أخلاقي عالمي، يكشف ميزان القوى بين منطقي الاستعمار والتحرّر. من يتهاون في الدفاع عن غزّة يساهم ضمناً في شرعنة نموذج دولي جديد يقوم على القوة العارية.
ما يجري من عدوان إسرائيلي هو لحظة اختبار للأمة العربية في قدرتها على إعادة تعريف ذاتها في مواجهة مشروع استيطاني توسّعي. لم تعد إسرائيل تستهدف المقاومة في غزّة فحسب، بل تضع يدها على مفاصل السيادة العربية من الخليج إلى المغرب. وفي هذه اللحظة، يصبح الاصطفاف القومي خلف القضية الفلسطينية ضرورة وجودية. من هنا، الرسالة المركزية لهذا العدوان أن الصراع لم ينتهِ، بل يتجدّد في أفق قومي يضع العرب جميعاً أمام مسؤوليتهم التاريخية.