الديني في خدمة الإبادة

17 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 02:51 (توقيت القدس)

(حمزة بونوة)

+ الخط -

"نُؤكد للعالم كله أن إسرائيل ليست وحدها، وأن الله سيبارك الأمة التي تبارك إسرائيل، نحن نفهم أن هذا دورنا، وهو توجيه كتابي مقدس، إنه بالنسبة لنا أمر إيماني". ... لم تكن تلك العبارات صادرة عن رجل دين أُصولي، أو ناشط مؤيد لإسرائيل، بل كانت صادرة عن أحد أهم الرجال في النظام السياسي بالولايات المتحدة، وهو الجمهوري المحافظ، والمسيحي الإنجيلي المتدين مايك جونسون، رئيس مجلس النواب الأميركي، الذي نشأ في بيئة بروتستانتية تؤمن بحَرفية النص والكتاب المقدس، بل ولا تسمح للتأويل أن يأخذ دوراً في تحليل النص إلا في حدود ضيقة ومُحكمة، حتى أنه في لقاء مع إحدى الشبكات الإسرائيلية استند إلى العهد القديم، وتحديداً سِفر التكوين، وخصوصاً ما يتعلق بمباركة الأمة التي تبارك إسرائيل؛ حيث رفض تأويل ذلك النص، أو قصره على مرحلة تاريخية بائدة أو مُفترضة؛ أو كما قال "أتعامل مع هذا النص بشكل حَرفي"، ففي نظر مايك وغيره من تيار المسيحية الصهيونية فإن كلمة إسرائيل الواردة في الكتاب المقدس هي ذاتها التي تم إعلانها عام 1948، ويبدو أن ذلك تقليد سياسي راسخ لدى قوى اليمين البيضاء، ذات الروابط الأنجلو– بروتستانتية؛ ففي إبريل/ نيسان 2024، خلال جلسة استماع في الكونغرس حول معاداة السامية في الجامعات الأميركية، وجه النائب الجمهوري ريك ألين انتقادات حادة إلى نعمت شفيق، رئيسة جامعة كولومبيا، بسبب عدم قمعها الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل، بتقديم تساؤل استنكاري غير متوقع، حيث قال "هل تعرفين سِفر التكوين 12:3؟ إنه عهد قطعه الله مع إبراهيم.. إذا باركت إسرائيل أُباركك، وإذا لعنتَ إسرائيل ألعنكْ ... فهل تريدين أن يلعن الله جامعة كولومبيا؟".

ثمة تيار ديني نافذ في السياسة الأميركية يجمع بين العقيدة المذهبية والدعاوى العنصرية والسياسية اليمينية

ويبدو واضحاً أن ثمة تياراً دينياً نافذاً في السياسة الأميركية يجمع بين العقيدة المذهبية والدعاوى العنصرية والسياسية اليمينية، بل إن أبرز الرؤساء الأميركيين - الذين عاصروا الأحداث الكبرى بين إسرائيل والعرب – كان العديد منهم مرتبطين بولاءات دينية وعاطفية قوية تجاه إسرائيل؛ وكان أبرزهم الرئيس الأميركي ليندون جونسون، الذي حَكمَ ( 1963 - 1968) وعاصر حرب حزيران 1967، وأبدى دعماً كبيراً لإسرائيل في ما قامت به من عدوان واحتلال للأراضي العربية، بل كان مؤسساً لعلاقة استراتيجية غير مسبوقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وخلافاً لسابقيه من الرؤساء الأميركيين أبدى جونسون دعماً صريحاً غير محدود لإسرائيل، بل وساهمت سياساته في توثيق تحالف الجنوب الأميركي ذي النزعة البروتستانتية مع مصالح إسرائيل وضمان تفوقها، ودعمها بلا حدود أياً كان ما ترتكبه من جرائم وانتهاكات، وكان جونسون أول من وصف إسرائيل بالدولة الصغيرة؛ وبشكل يبرز أهمية حمايتها ودعمها في وسط محيط عربي هائل؛ وفي عبارة كاشفة عن تحيزه المطلق لإسرائيل صرح لأحد الصحافيين الذي سأله عن سبب تأييده إسرائيل بينما يوجد أكثر من 80 مليوناً من العرب يعيشون حولها؟ فأجاب بدون تردد "لأن إسرائيل على الصواب"، وإذا كانت لحظة الحرب الباردة حاضرة آنذاك ومولدة لمزيد من العداوة حتى أن الرئيس جمال عبد الناصر وصف جونسون بأنه "مجرّد راعي بقر"، فإن الانحياز الأميركي لإسرائيل هو بنيان تاريخي قوي وثقافة مؤسسية راسخة.

ومن الناحية التاريخية، ليس الانحياز الأميركي لإسرائيل مجرّد سياسة مصالح متبادلة فقط، بل هو أيضاً ثقافة أميركية رسمية بدأت مع التأسيس السياسي للولايات المتحدة عندما هاجر بعض من طائفة البيوريتان الكالفينيين إلى العالم الجديد، والكالفينية تحديداً كان لها دور مركزي في النظام الأميركي، فلم تكن أساس تطور الرأسمالية فحسب، كما قال ماكس فيبر، بل كانت محوراً للثقافة والهوية الأميركية، حيث أميركا تُجسد أمة استثنائية، وذلك تأثراً بالتفسير الكالفيني للعهد القديم الذي يُصور إسرائيل بأنها مصدر لأمة مختارة؛ حتى أن المستوطنين الجدد لأميركا في القرن الثامن عشر تصوّروا أميركا إسرائيل الجديدة، وتطور الأمر إلى تيارات يمينية أكثر تشدداً وقومية وتديناً حرفياً، وهو الأمر الذي لخصه مايك جونسون بقوله "إن الدعم لإسرائيل التوراتية والشعب اليهودي جزء من تأسيس أمتنا قبل 249 عاماً".

لم تفلح الليبرالية والتعددية وسياسات التنوع العرقي والثقافي في تقليل نفوذ اليمين الأبيض

لم تفلح الليبرالية والتعدّدية وسياسات التنوع العرقي والثقافي في تقليل نفوذ اليمين الأبيض المعبّأ بالتفسيرات الدينية؛ فقد وصل إلى قمة مراكز القوة؛ فوزير الدفاع الأميركي، مثلاً، بِيت هيغسيث صرح قبل توليه الوزارة "إذا كان العام 1917 معجزة، و1948 معجزة، و1967 معجزة، و2017 إعلان القدس عاصمة لإسرائيل معجزة، فلا يوجد سبب يمنع أن تكون معجزة إعادة بناء الهيكل ممكنة"، علاوة على تصريحاته الرافضة لأي حل للدولتين، بل هي "دولة واحدة فقط" كما قال.

وإذا كان ثمة من لا يزال يتمسك بطوق النجاة الأميركي فإنه لا تغيب مواقف الشعوب عندما تتكلم؛ فقد أدرك المصريون مبكراً حقيقة الموقف الأميركي، ففي مارس/ آذار 1910 زار الرئيس الأميركي السابق تيودور روزفلت مصر والسودان، حيث ألقى خُطبة في الجامعة المصرية الوليدة آنذاك، وفيها نال من كرامة المصريين عندما انتقد سعيهم إلى الدستور والاستقلال، فما كان منهم إلا أن أبدوا سخطاً كبيراً على خطبته؛ حتى أن أهالي الاسكندرية تجمعوا أمام محطة القطار حيث وصل روزفلت وأخذوا يتبعون سيره وهم يهتفون "ليسقط روزفلت. ليسقط النفاق. لتحيا مصر. ليحيا الاستقلال".

ولاحقه شاعر النيل حافظ إبراهيم بقوله: يا نصيرَ الضعيفِ حَبِّبْ إليهم/ هَجْرَ مصرَ تفُزْ بأجرٍ كبير