استمع إلى الملخص
- نجح زهران في كسب دعم شخصيات مؤثرة مثل سالي سوسمان وروبرت وولف، مما يعزز فرصه في تحقيق وعوده بالمساواة ودعم الفئات المهمشة.
- حملة زهران الانتخابية يقودها جيل زد، الذي يدعم برنامجه الذي يعبر عن أولوياتهم، مما يعكس حاجة المجتمعات العربية لتبني نماذج مشابهة لتحقيق التغيير.
وهذا من حسن حظ زهران ممداني المرشح لمنصب عمدة نيويورك، وربما حظنا وحظ نموذجه، إذ يتوهم البعض ممن تسيطر عليه هرطقات "اللاسياسة" المتمددة في الفراغ المصري بمختلف تياراته، وارتداداتها على أداء تسوقه خرافات "أنا ومن بعدي الطوفان" وترجمتُها التنفيذيةُ "إمَّا أن أحوز كل شيء أو أهدم المعبد على الجميع"، أنّ ممداني عدوٌّ لدود للشركات الكبرى وفي صراعٍ وجوديٍّ معها، باعتباره اشتراكيا ديمقراطيا، أو العكس، حسب ما تراه من موقعك في مقصورة المتفرجين وأنا معك، في متابعة لمباراة سياسية ممتعة لم نعشها منذ نهاية الربيع العربي، بَلْهَ لا تزيد إن وصفت بـ"النادرة" في تاريخ مجتمعاتنا العربية قليلة الحظ الديمقراطي، منذ خرج المحتل الخارجي من أراضيها.
إلى هؤلاء: هل تعلمون وبالتأكيد لا تتوقعون، أن زهران التقى "شراكة مدينة نيويورك"، وهو اتحادٌ يضم 350 عضوا يمثلون البنوك وشركات المحاماة ومؤسسات اقتصادية كبرى، لتهدئة مخاوفهم والوصول إلى صيغة حلول وَسطيَّة، لا نؤمن بها ولا تعنينا، فنحن من لا يقبلون سوى أن "تخر الجبابر لهم ساجدينا"، وفي المقابل، تقول سالي سوسمان، المديرة التنفيذية المخضرمة وعضو اللجان المالية للحملات الرئاسية لباراك أوباما وهيلاري كلينتون وجو بايدن، وهي واحدةٌ ممن قابلوا زهران: "لقد طرح أسئلة مثل: ماذا تعرفين عن القيادة التي تُغيِّر قواعد اللعبة؟ وكيف ينبغي لي تشكيل إدارة؟ وأوضح أنَّه لن تكون هناك اختيارات حاسمة للأدوار التي سيقوم بها الموظفون في إدراته"، بما يعني أنه لم يحدد بشكل نهائي وظائفهم ومهامهم ترقبا لمشاركة أوسع من مختلف فئات المجتمع، ومن بينهم الأثرياء والرأسماليون الذين لن يدخل معهم في معركة صفرية تدمره ونموذجه من قبله، وتقتل آمال من جلبهم لأول مرة إلى عالم السياسة أو استعادهم مرة ثانية لمصلحة حزبه.
منذ ذلك الحين، أصبحت سوسمان حليفا قيّما، وشاركت في تنظيم اجتماعين وديين في مكتب حملة ممداني الانتخابية حضرهما قادة الأعمال ومستثمري التكنولوجيا الراغبين في مقابلته، وعلاوة على سوسمان، يبدي روبرت وولف، وهو عضو آخر في شراكة مدينة نيويورك وجامع تبرعات رئيسي للحزب الديمقراطي، إعجابه بأداء زهران، وكما يقول لـ"نيويورك تايمز"، :"أتبادل الرسائل النصية مع المرشح باستمرار"، وهكذا استطاع زهران تحويله إلى أداة تواصل غير رسمية يقيس من خلالها نبض مجتمع المال والأعمال في المدينة، حتى إن وولف يقول أنه اقتنع من خلال تفاعلاتهما الخاصة بأن زهران يدرك أهمية ازدهار القطاع الخاص في نيويورك، و"هدفه الأساسي إيجاد طريقة مناسبة لاستخدام الإدارة في تحقيق وعوده بالمساواة ودعم الفئات المهمشة".
"إنه مفرط"، هكذا سيراه اليساري المصري وحتى العربي نقي الأيدولوجيا، عظيم الوفاء لمبادئ طوباوية، لا تغادر أحلامه إلا في مقالات مكتوبة أو عبر وسائط إعلامية، وفي أحسن الأحوال الجماهيرية، يمكن لأفكاره أن ترى النور في ندوات لن تعقد إلا بعد موافقة أجهزة الأمن، وفي المحصلة، لن يصل ما يقوله إلى مرحلة الأخذ والعطاء مع الوسطاء السياسيين والاقتصاديين والأجهزة التنفيذية، من أجل محاولة انتزاع أفضل صفقة لمصلحة الجمهور عبر الاشتباك مع السلطة لجعلها أكثر عدالة، أي أن نقاء الأيدولوجيا وبقائها سليمة محفوظة بورقها في "النيش" (خزانة لا تمس في البيوت المصرية) السياسي أعظم درجة من تسوية أو تفاهم قد يفضي إلى أي تغيير ولو كان ضئيلا، وليس أدل على ذلك من رصد كيف تغير مصطلح "الصفقة" في سياقنا المصري الإعلامي والسياسي المتصلب وصار يقدم باعتباره مؤامرة بدلا من موائمة بين مختلف الأطراف.
أما رحلة زهران وقد اقتربت من نهايتها السعيدة ما لم تقع مفاجأة في اللحظة الأخيرة، فإنها تنم عن وعي سياسي متطور يجسده نجاح السياسي الشاب في مواجهة شبكات نفوذ وتأثير متعددة الانتماءات سواء كانت جمهورية أو يمينية وإسرائيلية راسخة سياسيا وماليا، عمدت إلى نصب فخاخ في طريقة ورمت في وجه حملته الانتخابية عراقيل تنوء بها العصبة أولي القوة فما بالك بشاب ينتمي إلى جيل الألفية، (بين 1981 و 1996)، ولم يزد عمره عن 33 عاما وقت الإعلان عن ترشحه بينما ماكينته الانتخابية قوامها جيل زد المولود بين (1997 و2012)، ما يكشف عن حداثة يقف في وجهها كهول الحزب الديمقراطي ممن توقف بهم الزمن عند "لحظة إسرائيل" في السياسية الأميركية. ومن هنا يتضح لماذا لم يعلن زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ السيناتور تشاك شومر، وهو من نيويورك كذلك ويمتلك أصولا انتخابية مهمة فيها، دعمه لزهران حتى اليوم؟ وعلى غراره العديد من قيادات الحزب، وإن كان كان بعضهم أخيرا رضخ لضغوط الجمهور، فيما السباق الانتخابي يقارب نهايته وأهمهم حاكمة ولاية نيويورك كاثي هوشول التي "تكرمت" وزعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب حكيم جيفريز، وهو من نيويورك، أيضا وأعلنا تأييد زهران.
ولا يعود الفضل وحده إلى المرشح الكاريزمي المثقف والقادر على المناظرة وهي صفات نفتقدها في السياق المصري والعربي، بل إلى حملة يشبهها وتشبهه، تتسم بالحيوية الرائعة، قوامها الجيل زد غير المضطر إلى التظاهر في الشوارع طلبا لخدمات أساسية، ولماذا؟ ويمكنه ببساطة فرض إرادته عبر صناديق الاقتراع مصوتا لزهران وبرنامجه الذي حظي بتأييدهم الغائب عن قادة الحزب الديمقراطي "التاريخيين" بكل ما تعنيه الكلمة من معان، فالمتصدرون للمشهد الحالي انتهى زمنهم، لذا استبدلهم الجمهور ولم يستعملهم، رافضا تشبثهم بالسلطة على حساب الجيل الجديد الباحث عن نموذجه من القادة المحفزين الذين يشبهونهم ويقدمون لهم أفكارا سياسية تعنى بواقعهم السيئ، وهذه وصفة النجاح لأي تغيير. قائد مؤهل وجماهير متعطشة، وبرنامج يعبر عن أولوياتها الحياتية ويقدم أملا جديدا في حل مشكلات تراكمت وأسفرت عن تراجع جودة الحياة ونوعيتها أي القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي هي لب أفكار اليسار. وإن لم يقدم حلولا لها، فماذا يضيف إلى الحياة السياسية؟ وكيف يجذب الجماهير إلى رؤاه؟ بالضبط هذا ما يفعله زهران ورفاقه، على نقيض ما يحصل في مصر، إذ لا نسمع صوتا لاشتراكييها وأحزابهم غير المحظورة أو المطاردة، إلا في المعارك الآمنة، لتجدهم يسبقون الصفوف في نقاشات الهوية الاستقطابية متجاهلين خيارات السلطة الحالية اقتصاديا وسياسيا بالرغم من كونها تمنح من يريد العمل منهم فرصا لن تتكرر.
بهذا المعنى الاشتراكيون المصريون في واد والشعب في واد آخر، ويجدر بهم التعلم من نموذج زهران وحملته وتنزيل ما أمكن على واقعهم، استلهاما من شباب يعملون بكل جد من قلوبهم قبل عقولهم تطبيقا لمقولة مارتن لوثر كينج في خطابه إلى مجلس العمل الأميركي الأسود عام 1961 :"سمها ديمقراطية، أو سمها اشتراكية ديمقراطية، ولكن لا بد من توزيع أفضل للثروة في هذا البلد".